فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{يُحَرّفُونَ الكلم عَن مواضعه} استئناف لبيان مرتبة قساوة قلوبهم فإنه لا مرتبة أعظم مما ينشأ عنه الاجتراء على تحريف كلام رب العالمين والافتراء عليه عز وجل، والتعبير بالمضارع للحكاية واستحضار الصورة، وللدلالة على التجدد والاستمرار، وجوز أن يكون حالا من مفعول {لعناهم}، أو من المضاف إليه في قلوبهم وضعف بما ضعف، وجعله حالا من القلوب، أو من ضميره في {قَاسِيَةً} كما قيل، لا يصح لعدم العائد منه إلى ذي الحال، وجعل القلوب بمعنى أصحابها مما لا يلتفت إليه أصحابها. اهـ.

.قال أبو حيان:

{يحرفون الكلم عن مواضعه} أي يغيرون ما شق عليهم من أحكامها، كآية الرجم بدلوها لرؤسائهم بالتحميم وهو تسويد الوجه بالفحم قال معناه ابن عباس وغيره، وقالوا: التحريف بالتأويل لا بتغيير الألفاظ، ولا قدرة لهم على تغييرها ولا يمكن.
ألا تراهم وضعوا أيديهم على آية الرجم؟ وقال مقاتل: تحريفهم الكلم هو تغييرهم صفة الرسول أزالوها وكتبوا مكانها صفة أخرى فغيروا المعنى والألفاظ، والصحيح أن تحريف الكلم عن مواضعه هو التغيير في اللفظ والمعنى، ومن اطلع على التوراة علم ذلك حقيقة، وقد تقدم الكلام على هذا المعنى.
وهذه الجملة وما بعدها جاءت بيانًا لقسوة قلوبهم، ولا قسوة أشد من الافتراء على الله تعالى وتغيير وحيه.
وقرأ أبو عبد الرحمن والنخعي الكلام بالألف.
وقرأ أبو رجاء: الكلم بكسر الكاف وسكون اللام. اهـ.

.قال ابن عاشور:

والتحريف: الميل بالشيء إلى الحرف، والحرف هو الجانب.
وقد كثر في كلام العرب استعارة معاني السير وما يتعلّق به إلى معاني العمل والهُدى وضدّه؛ فمن ذلك قولهم: السلوك، والسيرة؛ والسعي؛ ومن ذلك قولهم: الصراط المستقيم، وصراطًا سويًا، وسواء السبيل، وجادّة الطريق، والطريقة الواضحة، وسواء الطريق؛ وفي عكس ذلك قالوا: المراوغة، والانحراف، وقالوا: بنيَّات الطريق، ويعْبُد الله على حرف، ويشعِّبُ الأمور.
وكذلك ما هنا، أي يعدلون بالكلم النبويّة عن مواضعها فيسيرون بها في غير مسالكها، وهو تبديل معاني كتبهم السماوية.
وهذا التحريف يكون غالبًا بسوء التأويل اتّباعًا للهوى، ويكون بكتمان أحكام كثيرة مجاراة لأهواة العامّة، قيل: ويكون بتبديل ألفاظ كتبهم.
وعن ابن عبّاس: ما يدلّ على أنّ التحريف فساد التأويل.
وقد تقدّم القول في ذلك عند قوله تعالى: {من الّذين هادوا يحرّفون الكلم عن مواضعه} في سورة النساء (46).
وجيء بالمضارع للدلالة على استمرارهم.
وجملة {ونسوا حظًّا} معطوفة على جملة {يحرّفون}.
والنسيان مراد به الإهمال المفضي إلى النسيان غالبًا.
وعبّر عنه بالفعل الماضي لأنّ النسيان لا يتجدّد، فإذا حصل مضى، حتّى يُذكّره مُذكِّر.
وهو وإن كان مرادًا به الإهمال فإنّ في صوغه بصيغة الماضي ترشيحًا للاستعارة أو الكناية لتهاونهم بالذكرى.
والحظّ النصيب، وتنكيره هنا للتعظيم أو التكثير بقرينة الذمّ.
وما ذكّروا به هو التّوراة.
وقد جمعت الآية من الدلائل على قلّة اكتراثهم بالدّين ورقّة اتِّباعهم ثلاثة أصول من ذلك: وهي التعمّد إلى نقض ما عاهدوا عليه من الامتثال، والغرور بسوء التأويل، والنسيان الناشيء عن قلّة تعهّد الدّين وقلّة الاهتمام به.
والمقصود من هذا أن نعتبر بحالهم ونتّعظ من الوقوع في مثلها.
وقد حاط علماء الإسلام رضي الله عنهم هذا الدّين من كلّ مسارب التحريف، فميّزوا الأحكام المنصوصة والمقيسة ووضعوا ألقابًا للتمييز بينها، ولذلك قالوا في الحكم الثابت بالقياس: يجوز أن يقال: هو دين الله، ولا يجوز أن يُقال: قاله الله. اهـ.

.قال الفخر:

قال ابن عباس: تركوا نصيبًا مما أمروا به في كتابهم وهو الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَنَسُواْ حَظَّا} أي وتركوا نصيبًا وافيًا، واستعمال النسيان بهذا المعنى كثير {مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} من التوراة أو مما أمروا به فيها من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: حرفوا التوراة فسقطت بشؤم ذلك أشياء منها عن حفظهم، وأخرج ابن المبارك وأحمد في «الزهد» عن ابن مسعود قال: إني لأحسب الرجل ينسى العلم كان يعلمه بالخطيئة يعملها، وفي معنى ذلك قول الشافعي رضي الله تعالى عنه:
فأرشدني إلى ترك المعاصي ** وأخبرني بأن العلم نور

ونور الله لا يهدى لعاصي. اهـ.

.قال الفخر:

في الخائنة وجهان:
الأول: أن الخائنة بمعنى المصدر، ونظيره كثير، كالكافية والعافية، وقال تعالى: {فَأُهْلِكُواْ بالطاغية} [الحاقة: 5] أي بالطغيان.
وقال: {لَّيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الواقعة: 2] أي كذب.
وقال: {لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاغية} [الغاشية: 11] أي لغوًا.
وتقول العرب: سمعت راغية الإبل.
وثاغية الشاء يعنون رغاءها وثغاءها.
وقال الزجاج: ويقال عافاه الله عافية، والثاني: أن يقال: الخائنة صفة، والمعنى: تطلع على فرقة خائنة أو نفس خائنة أو على فعلة ذات خيانة.
وقيل: أراد الخائن، والهاء للمبالغة كعلامة ونسابة.
قال صاحب الكشاف وقرئ على خيانة منهم.
ثم قال تعالى: {إِلاَّ قَلِيلًا مّنْهُمُ} وهم الذين آمنوا كعبد الله بن سلام وأصحابه.
وقيل: يحتمل أن يكون هذا القليل من الذين بقوا على العهد ولم يخونوا فيه. اهـ.

.قال القرطبي:

{وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ} أي وأنت يا محمد لا تزال الآن تقف {على خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ} والخائنة الخيانة؛ قال قتادة.
وهذا جائز في اللغة، ويكون مثل قولهم: قائلة بمعنى قيلولة.
وقيل: هو نعت لمحذوف والتقدير فرقة خائنة.
وقد تقع {خائنة} للواحد كما يقال: رجل نسّابة وعلاّمة؛ فخائنة على هذا للمبالغة؛ يقال: رجل خائنة إذا بالغت في وصفه بالخيانة.
قال الشاعر:
حدّثت نفسك بالوفاءِ ولم تكن ** لِلغَدْرِ خائِنةً مُغِلَّ الإصْبَعِ

قال ابن عباس: {عَلَى خَائِنَةٍ} أي معصية.
وقيل: كذب وفجور.
وكانت خيانتهم نقضهم العهد بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومظاهرتهم المشركين على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كيوم الأحزاب وغير ذلك من همهِم بقتله وسبه.
{إِلاَّ قَلِيلًا مِّنْهُمْ} لم يخونوا؛ فهو استثناء متصل من الهاء والميم اللتين في {خَائِنَةٍ مِنهم}. اهـ.

.قال أبو حيان:

{ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلًا منهم} أي هذه عادتهم وديدنهم معك، وهم على مكان أسلافهم من خيانة الرسل وقتلهم الأنبياء.
فهم لا يزالون يخوفونك وينكثون عهودك، ويظاهرون عليك أعداءك، ويهمون بالقتل بك، وأن يسموك.
ويحتمل أن يكون الخائنة مصدرًا كالعافية، ويدل على ذلك قراءة الأعمش على خيانة، أو اسم فاعل، والهاء للمبالغة كراوية أي خائن، أو صفة لمؤنث أي قرية خائنة، أو فعلة خائنة، أو نفس خائنة.
والظاهر في الاستثناء أنه من الأشخاص في هذه الجملة، والمستثنون عبد الله بن سلام وأصحابه قاله: ابن عباس.
وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون في الأفعال أي: إلا فعلًا قليلًا منهم، فلا تطلع فيه على خيانة.
وقيل: الاستثناء من قوله: {وجعلنا قلوبهم قاسية} والمراد به المؤمنون، فإنّ القسوة زالت عن قلوبهم، وهذا فيه بعد. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {ولا تزال تطّلع على خائنة منهم} انتقال من ذكر نقضهم لعهد الله إلى خيسهم بعهدهم مع النّبيء صلى الله عليه وسلم وفِعل {لا تزال} يدلّ على استمرار، لأنّ المضارع للدلالة على استمرار الفعل لأنّه في قوة أن يقال: يدوم اطّلاعك.
فالاطّلاع مجاز مشهور في العلم بالأمر، والاطّلاع هنا كناية عن المطّلع عليه، أي لا يزالون يخونون فتطّلع على خيانتهم.
والاطّلاع افتعال من طَلع.
والطلوع: الصعود.
وصيغة الافتعال فيه لمجرّد المبالغة، إذ ليس فعله متعدّيًا حتّى يصاغ له مطاوع، فاطّلع بمنزلة تطّلع، أي تكلّف الطلوع لقصد الإشراف.
والمعنى: ولا تزال تكشف وتشاهد خائنة منهم.
والخائنة: الخيانة فهو مصدر على وزن الفاعلة، كالعاقبة، والطاغية.
ومنه {يعلم خائنة الأعين} [غافر: 19].
وأصْل الخيانة: عدم الوفاء بالعهد، ولعلّ أصلها إظهار خلاف الباطن.
وقيل: {خائنة} صفة لمحذوف، أي فرقة خائنة.
واستثنى قليلًا منهم جُبلوا على الوفاء، وقد نقض يهود المدينة عهدهم مع رسول الله والمسلمين فظاهروا المشركين في وقعة الأحزاب، قال تعالى: {وأنزَل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم} [الأحزاب: 26]. اهـ.

.قال الفخر:

فيه قولان: الأول: أنه منسوخ بآية السيف، وذلك لأنه عفو وصفح عن الكفار، ولا شك أنه منسوخ بآية السيف.
والقول الثاني: أنه غير منسوخ وعلى هذا القول ففي الآية وجهان: أحدهما: المعنى فاعف عن مذنبهم ولا تؤاخذهم بما سلف منهم، والثاني: أنا إذا حملنا القليل عن الكفار منهم الذين بقوا على الكفر فسرنا هذه الآية بأن المراد منها أمر الله رسوله بأن يعفو عنهم ويصفح عن صغائر زلاتهم ما داموا باقين على العهد، وهو قول أبي مسلم. اهـ.